فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)}
قوله تعالى: {جَعَلَ السقاية}: العامَّة على: {جَعَل} دون زيادة واو قبلها. وقرأ عبد اللَّه: {وجَعَلَ}، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّ الجوابَ محذوفٌ. والثاني: أن الواوَ مزيدةٌ في الجواب على رأيِ مَنْ يَرى ذلك، وهم الكوفيون والأخفش. وقال الشيخ: وقرأ عبد اللَّه فيما نقل الزمخشري: {وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه}: أمهلهم حتى انطلقوا: {ثم أذَّن مؤذِّن}، وفي نَقْل ابن عطية: {وجعل} بزيادة واوٍ في: {جَعَل}، دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ}، فاحتمل أن تكونَ الواوُ زائدةً على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكونَ جوابُ: {لمَّا} محذوفًا تقديره: فَقَدها حافظُها، كما قيل: إنما أوحيَ إلى يوسفَ أن يَجْعل السقاية فقط، ثم إنَّ حافِظَها فَقَدَها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحه الطبري. وتفتيشُ الأوعية يَرُدُّ هذا القول.
قلت: لم ينقلِ الزمخشري هذه الزيادةَ كلَّها قراءةً عن عبد اللَّه، إنما جعل الزيادةَ المذكورةَ بعد قوله: {رَحْل أخيه} تقديرَ جوابٍ مِنْ عنده، وهذا نصُّه: قال الزمخشري: وقرأ ابن مسعود: {وجَعَل السِّقاية} على حَذْفِ جواب: {لمَّا} كأنه قيل: فلمَّا جَهَّزهم بجهَازهم وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن فهذا من الزمخشري إنما هو تقديرٌ لا تلاوةٌ منقولة عن عبد اللَّه، ولعله وقع للشيخِ نسخةٌ سقيمة.
والسِّقاية: إناءٌ مستطيل يسقى به وهو الصُّواع، وللمفسرين فيه خلافٌ طويل.
قوله: {أَيَّتُهَا العير} منادى حُذِفَ منه حرفُ النداء والعِيْر مؤنث، ولذلك أتَتْ أيّ المُتَوَصَّلُ بها إلى ندائه. والعِيْر فيها قولان، أحدهما: أنها في الأصلِ جماعةُ الإِبل سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَعِيْر، أي: تَذْهَبُ وتجيء به. والثاني: أنها في الأصل قافلة الحمير كأنها جمع عَيْر، والعَيْر: والعَيْر: الحمار. قال:
ولا يُقيم على ضَيْمٍ يُرادُ به ** إلا الأَذَلاَّن عَيْرُ الحَيِّ والوَتِدُ

والأصل: عَيْر وعُيْر بضم العين ثم فَعِل به ما فُعِل ب بِيض، والأصل: بُيْض بضم الأول، ثم أُطْلِقَ العِير على كل قافلة حميرًا كنَّ أو غيرَها، وعلى كل تقدير فنسبةُ النداء إليها على سبيل المجاز، لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلُها. ونَظَّره الزمخشري بقوله: «يا خيلَ اللَّهِ اركبي»، إلا أنه في هذه الآية التفت إلى المضاف المحذوف في قوله: {إنكم لسارقون} ولم يَلْتفت إليه في «يا خيل اللَّه اركبي»، ولو التفت لقال: اركبوا. ويجوزُ أن يُعَبَّر عن أهلها للمجاورة فلا يكونُ مِنْ مجازِ الحَذْف، بل من مجازِ العَلاقة.
وتجمعه العرب قاطبةً، على عَيَرات بفتح الياء، وهذا ممَّا اتُّفِقَ على شذوذه؛ لأن فِعْلَة المعتلةَ بالعين حقُّها في جمعها بالألف والتاء أن تُسَكَّن عينُها نحو: قِيمة وقِيْمات ودِيْمة ودِيْمات، وكذلك فَعْل دون ياء إذا جُمِعَ حَقُّه أن تُسَكَّن عينُه. وقال امرؤ القيس:
غَشِيْتُ ديارَ الحي بالبَكَرَاتِ ** فعارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ

وقال الأعلم الشنتمري: العِيَرات هنا: مواضع الأَعْيار وهي الحُمُر قلت: وفي عِيَرات شذوذٌ آخرُ وهو جَمْعُها بالألف والتاء مع جَمْعِها على أعْيار أيضًا جمعَ تكسير، وقد نَصُّوا على ذلك. قيل: ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله:
إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفًا لدولةٍ ** ففي الناسِ بُوْقاتُ لهم وطبولُ

قالوا: فجمع بوقًا على بوقات مع تكسيرهم له على أبواق.
قوله تعالى: {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ}: هذه الجملة حالية من فاعل قالوا، أي: قالوا وقد أقبلوا، يعني في حال إقبالهم عليهم.
قوله: {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألةِ أولَ هذا الموضوع. وقرأ العامَّةُ: {تَفْقِدون} بفتح حرف المضارعة؛ لأنَّ المستعملَ منه فَقَد ثلاثيًا. وقرأ السُّلَمي بضمِّه مِنْ أَفْقَدْتُه إذا وجدتَه مفقودًا كَأَحْمَدْته وأَبْخَلْتُه، أي: وَجَدْتُه محمودًا بخيلًا. وضَعَّف أبو حاتم هذه القراءةَ، ووَجْهُها ما ذَكَرْتُه.
{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}
قوله تعالى: {صُوَاعَ}: هو المِكْيال وهو السِّقاية المتقدمة سَمَّاه تارةً كذا وتارةً كذا، وإنما اتُّخِذ هذا الإِناء مكيالًا لعِزَّة ما يُكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءاتُ كثيرةٌ كلُّها لغاتٌ في هذا الحرفِ، ويذكَّر ويؤنَّث: فالعامَّةُ: {صُواع} بزنة غُراب، والعين مهملة. وقرأ ابن جبير والحسن كذلك إلا أنه بالغين معجمةً. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه حَذَفَ الألف وسكَّن الواو، وقرأ زيد بن علي: {صَوْغ} كذلك، إلا أنه فتح الصاد جعله مصدرًا لصاغ يَصُوغ، والقراءتان قبله مشتقتان منه، وهو واقع موقعَ مفعولٍ، أي: مَصُوغ المَلِك. وقرأ أبو حيوة وابن جبير والحسن في روايةٍ عنهما: {صِواع} كالعامَّة لا أنهم كسروا الفاء.
وقرأ أبو هريرة ومجاهد: {صَاعَ} بزنة باب، وألفه كألفه في كونِها منقلبةً عن واوٍ مفتوحة. وقرأ أبو رجاء: {صَوْعَ} بزنة قَوْسٍ. وقرأ عبد اللَّه بن عون كذلك إلا أنه ضمَّ الفاءَ فهذه ثمانِ قراءات متواتِرُها واحدةٌ.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)}
قوله تعالى: {تالله}: التاءُ حرفُ قسمٍ، وهي عند الجمهور بدلٌ من واو القسم، ولذلك لا تدخُل إلا على الجلالةِ المقدسة أو الرب مضافًا للكعبة أو الرحمن في قولٍ ضعيف. ولو قلت: تالرحيم لم يَجُزْ. وهي فرع الفرع. هذا مذهبُ الجمهور، وزعم السهيلي أنها أصل بنفسها ويلازِمُها التعجبُ غالبًا كقوله تعالى: {تَالله تَفْتَؤُاْ} [يوسف: 85].
وقال ابن عطية: والتاء في: {تاللَّه} بدلٌ من واو، كما أُبْدِلت في تُراث وفي التوراة وفي التُّخَمَة، ولا تدخل التاء في القسم، إلا في المكتوبة من أسماء اللَّه تعالى وغيره ذلك، لا تقول: تالرحمن، وتالرحيم. وقد عرفْتَ أنَّ السهيلي خالَفَ في كونها بدلًا من واو. وأمَّا قولُه: وفي التوراة يريد عند البصريين. وزَعَمَ بعضُهم أنَّ التاء فيها زائدة. وأمَّا قوله: إلا في المكتوبة هذا هو المشهور. وقد تقدَّم دخولُها على غير ذلك.
قوله: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يُحْتمل أن يكونَ جوابًا للقسم، فيكونون قد أَقْسموا على شيئين: نَفْيِ الفساد ونَفْيِ السَّرِقة.
وقوله: {مَّا جِئْنَا} يجوز أَنْ يكونَ مُعَلِّقًا للعلم، ويجوز أن يُضَمَّنَ العلمُ نفسُه معنى القسم فيجاب بما يُجاب القسم. وقيل: هذان الوجهان في قولِ الشاعر:
ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ** إنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها

{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)}
قوله تعالى: {فَمَا جَزَاؤُهُ}: الهاء تعودُ على الصُّواع، ولابد من حَذْفِ مضاف أي: فما جزاءُ سَرِقته. و: {إنْ كنتم} يجوز أن يكونَ جوابُه محذوفًا أو متقدِّمًا.
قوله تعالى: {جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ}: أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ: {جزاؤه} مبتدأً والضميرُ للسارق، و: {مَنْ} شرطية أو موصولةٌ مبتدأٌ ثانٍ، والفاءُ جوابُ الشرط أو مزيدةٌ في خبر الموصول لشبهه بالشرط، و: {مَنْ} وما في حَيِّزها على وَجْهَيْها خبر المبتدأ الأول، قاله ابن عطية، وهو مردودٌ بعدم رابطٍ بين المبتدأ وبين الجملةِ الواقعةِ خبرًا عنه، هكذا رَدَّه الشيخُ عليه. وليس بظاهر؛ لأنه يُجاب عنه بأنَّ هذه المسألةَ من باب إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، وَيَتَّضِحُ هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه اللَّه: ويجوز أن يكونَ: {جزاؤه} مبتدأً، والجملةُ الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مُقَامَ المضمر. والأصل: جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضِعَ هو كما تقول لصاحبك: مَنْ أخو زيد؟ فيقول لك: أخوه مَنْ يقعد إلى جنبه، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى: {مَنْ} والثاني إلى الأخ، ثم تقول: فهو أخوه، مقيمًا للمظهر مقام المضمر.
والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجهًا ثانيًا بعد الأول ولم يَعْتقدْ أنه هو بعينه، ولا أنَّه جوابٌ عَمَّا رَدَّ به على ابن عطية. ثم قال: ووَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل، وغير فصيحٍ فيما سوى ذلك نحو: زيدٌ قام زيد، ويُنَزَّه عنه القرآنُ، قال سيبويه: لو قلت: كان زيدٌ منطلقًا زيد لم يكن حَدَّ الكلام، وكان هاهنا ضعيفًا ولم يكنْ كقولِك: ما زيدٌ منطلقًا هو لأنك قد اسْتَغْنَيْتَ عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تُضْمِرَه. قلت: ومذهب الأخفش أنه جائزٌ مطلقًا وعليه بنى الزمخشري.
وقد جَوَّز أبو البقاء ما تَوَهَّم أنه جواب عن ذلك فقال: والوجه الثالث: أن يكونَ: {جزاؤه} مبتدأً، و: {مَنْ وُجد} مبتدأ ثان، و: {فهو} مبتدأٌ ثالث، و: {جزاؤه} خبر الثالث، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة، وعلى الثاني: {هو} انتهى. وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يَصِحُّ، إذ يصير التقديرُ: فالذي وُجِدَ في رَحْله جزاء الجزاء؛ لأنه جَعَل: {هو} عبارةً عن المبتدأ الثاني، وهو: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ}، وجعل الهاءَ الأخيرةَ وهي التي في: {جزاؤه} الأخير عائدةً على: {جزاؤه} الأولِ، وصار التقديرُ كما ذكَرْتُه لك.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون: {جزاؤه} مبتدأً، والهاءُ تعود على المسروق، و: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} خبره، و: {مَنْ} بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصُّواع الذي وُجد في رَحْله، كذلك كانت شريعتُهم: يُسْتَرَقُّ السارق، فلذلك اسْتُفْتوا في جزائه.
وقوله: {فهو جزاؤه} تقرير للحكم أي: فَأَخْذُ السارقِ نفسِه هو جزاؤه لا غير كقولك: حَقُّ زيدٍ أن يكسى ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عليه، فذلك حَقُّه أي فهو حَقُّه لِتُقَرِّرَ ما ذكرْتَه مِن استحقاق وتُلْزِمَه، قاله الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال: والتقدير استعبادُ مَنْ وُجِد في رَحْله، وقوله: {فهو جزاؤه} مبتدأ وخبر، مؤكِّد لمعنى الأول.
ولمَّا ذَكَر الشيخُ هذا الوجهَ ناقلًا له عن الزمخشري قال: وقال معناه ابن عطية، إلا أنه جعل القول الواحد قولين، قال: ويَصِحُّ أن يكونَ مَنْ خبرًا على أن المعنى: جزاءُ السارق مَنْ وُجِد في رَحْله، عائد على {مَنْ} ويكون قوله: {فهو جزاؤه} زيادةَ بيانٍ وتأكيدٍ، ثم قال: ويُحتمل أن يكونَ التقدير: جزاؤُه استرقاقُ مَنْ وجِد في رَحْلِه، وفيما قبله لابد مِنْ تقديره؛ لأنَّ الذاتَ لا تكونُ خبرًا عن المصدر، فالتقدير في القول قبله: جزاؤه أَخْذُ مَنْ وُجِد في رَحْله أو استرقاقه، هذا لابد منه على هذا الإِعراب قلت: وهذا كما قال الشيخُ ظاهره أنه جَعَل القول الواحد قولين.
الوجه الثالث مِن الأوجه المتقدِّمة: أن يكون {جزاؤه} خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: المسؤول عنه جزاؤه، ثم أَفْتَوا بقولهم: {مَنْ وُجِد في رَحْله فهو جزاؤه} كما يقول مَنْ يَسْتفتي في جزاء صيد المُحْرِم: جزاءُ صيد المُحْرِم، ثم يقول: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95]، قاله الزمخشري. قال الشيخ: وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله: المسؤول عنه جزاؤه على هذا التقدير ليس فيه كبيرُ فائدة؛ إذ قد عُلِمَ مِنْ قوله: فما جزاؤه أن الشيء المسؤولَ عنه جزاءُ سَرِقته، فأيُّ فائدةٍ في نُطْقهم بذلك؛ وكذلك القول في المثال الذي مَثَّل به مِنْ قول المستفتي.
قلت: قوله: ليس فيه كبيرُ فائدة ممنوعٌ بل فيه فائدةُ الإِضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثالُ ذلك.
الوجه الرابع: أن يكونَ {جزاؤه} مبتدأ، وخبرُه محذوف تقديره: جزاؤه عندنا كجزائِه عندكم، والهاءُ تعودُ على السارق أو على المسروق، وفي الكلام المتقدم دليلٌ عليهما، ويكون قولُه: {مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه} على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، ولم يذكرْه الشيخ، فقد جَعَلَ في الآية الكريمة أربعة أوجهٍ، وتقدَّم أن الأولَ والثاني وَجْهٌ كما بَيَّنْتُه، فإذا ضَمَمْنا هذا الوجهَ الأخيرَ الذي بدأ به أو البقاء إلى الأربعةِ التي ذكرها الشيخُ صارت خمسةً، ولكن لا تحقيقَ لذلك، وكذلك إذا التفَتْنا إلى قول ابن عطية في جَعْلِه القولَ الواحدَ قولين تصيرُ ستةً في اللفظ، فإذا حَقَّقَتْها لم تجِئ إلا أربعةً كما ذكرتها لك.
قوله: {كذلك نَجْزِي الظالمين} محل الكاف نصب: إمَّا على أنها نعتٌ لمصدر محذوف، وإمَّا حالٌ من ضميره، أي: مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع نجزي الظالمين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)}
حديثُ المحبةِ وأَحكامها أقسام: اشْتَاقَ يعقوبُ إلى لقاء يوسف عليهما السلام فَبَقِيَ سنين كثيرة، واشتاقَ يوسف إلى بنيامين فَرُزِقَ رؤيته في أَوْجِزِ مدةٍ.
وهَكَذَا الأمر؛ فمنهم موقوفٌ به، ومنهم صاحب بلاء.
ويقال لئن سَخِنَت عين يعقوب عليه السلام بمفارقة بنيامين فلقد قَرَّتْ عيْنُ يوسفَ بلقائه. كذا الأمر: لا تَغْرُبُ الشمس على قوم إلا وتطلع على آخرين.
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)}
احتمل بنيامينُ ما قيل فيه من السرقة بعدما التقى مع يوسف.
ويقال: ما نُسِبَ إليه من سوء الفعال هان عليه من جَنْبِ ما وجد من الوصال.
ويقال لئن نُسَبَ أخاه للسرقة تعرَّف إليه بقوله: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ}- سِرًّا، فكان مُتَحَمِّلًا لأعباء الملامة في ظاهره، محمولًا بوجدان الكرامة في سِرِّهِ، وفي معناه أنشدوا:
أَجِدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ** حُبًّا لذكرك فَلْيَلُمْني اللُّومُ

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)} يعني حُسْنُ سيرتنا في سير المعاملة يدلكم على حسن سريرتنا في الحالة. ويقال لو كُنَّا نسرق متاعكم لما رددناه عليكم ولَمَا وجدتموه في رحالنا بعد أَن غِبْنَا عنكم.
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)}
تَجَاسَرَ إخوةُ يوسف بجريان جزاءٍ السَّرِقةِ عليهم ثقةً بأنفسهم أنهم لم يُباشِروا الزَّلَّة، وكان بنيامينُ شريكَهم في براءة السَّاحةِ، فلما استُخْرِجَ الصَّاعُ مِنْ وعائه بَسَطَ الإخوةُ فيه لسانَ الملامةِ، وبقي بنيامين فلم يكن له جوابٌ كأنَّه أقَرَّ بالسرقة، ولم يكن ذلك صدقًا إذ أنه لم يَسْرِقْ، ولو قال: لم أَفْعَلْ لأفشى سِرّ يوسف عليه السلام الذي احتال معهم ذلك لأجْلِه حتى يُبْقِيه معه، فَسَكَتَ لسان بينامين، وتحقَّق بالحالِ قَلْبُه.
ويقال لم يستصعب الملامة- وإنْ كان بريئًا- مما قُرِنَ به، ولا يَضُرُّ سوءُ المقالةِ بالمكاشفين بعد حَسْنِ الحالةِ مع الأحباب.
ويقال سيئ بما أَظْهَرَتْ عليه المقالة، ولكن حَصَلَ له بذلك صفاءُ الحالة. اهـ.